بعيداً عن استثمار الكرامة بصورة روتينية
الخريطة التي وضعها وزير المالية الإسرائيلي في أحد المؤتمرات، استدعت من جديد الحديث عن الكرامة، ومن زاوية مختلفة، تتعلق بأوراق التاريخ وبعض تفاصيله. تركزت خطط تأسيس دولة إسرائيل على السيطرة على السواحل الفلسطينية، مع أن الوجود التاريخي القصير لممالك يهودية ذات طبيعة سياسية كان يتركز بين مدن القدس ونابلس والخليل، ولكن الحصول على الأرض التوراتية لم يكن الهدف، فالغاية استعمارية وتتركز في شرق المتوسط، ولذلك شحنت الوكالة الصهيونية بالتعاون مع الدول الأوروبية اليهود إلى المستوطنات مع التركيز على الأرض الساحلية. البحر المتوسط سؤال إجباري لكل من يقطنون على سواحله، ولذلك تكون الأسطول الإسلامي، وأعلن عن وجوده في معركة ذات الصواري، فالبحر هو مسألة أما حواشيه فهي مسألة أخرى، والأوروبيون لم يكونوا على استعداد لخسارة أي موقع يمكن أن يستحوذوا عليه في المتوسط، حتى لو كان جزيرة ليلى الصغيرة مقابل الساحل المغربي، ولذلك فالحصول على شرق المتوسط في فلسطين كان أحد الأولويات الأوروبية. كان اليهود أثناء وجودهم المقتضب يحملون طموحاً بالتمدد إلى أرض الأردن، إلا أن السبب الذي منعهم هو الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، فالأردن أرض تعبرها التجارة بصورة كثيفة، فالبضاعة التي يحملها البحر إلى جنوب الجزيرة العربية تعبر بالضرورة الإقليم الشامي من مدخله الجنوبي، أما التجارة مع فارس فكانت تصب في البصرة، ولذلك لم يكن يسمح لمملكة صغيرة لم تستمر طويلاً بأن تتوسع وراء نهر الأردن، ولا أن تتقدم تجاه السواحل، فبقيت في معظم فترات وجودها في المنطقة الداخلية التي تشكل الضفة الغربية معظمها. من الواضح أن الغاية من وجود إسرائيل لم تعد قائمة استراتيجياً بالنسبة لأوروبا، ولذلك، تعود للظهور الأحلام التوراتية من جديد، وهي لا تستثني الأردن بأية حال، وبالعكس، فالمستوطن يدرك أنه لا يمكن أن يستمر من غير عمق في شريط ساحلي أتى تصميمه لخدمة أهداف لا تنسجم مع الفكرة القومية اليهودية التي ترى أن أرضها ممتدة على جانبي النهر، وكما صنعت الحرب العالمية الأولى الشعب الفلسطيني فحددت عرب فلسطين في هوية تاريخية لم تكن واضحة بالمعنى الكامل، صنعت أيضاً شعوب سوريا والأردن ولبنان، وجميعها، بشكل أو بآخر تتقاطع مع نفس المحنة التاريخية و(المستقبلية)، أما الشعبين الأردني والفلسطيني فالمصير مشترك وما يحدث من ظواهر حدودية مستجد ومتقن في تفاصيله ليظهرهما في سياقات تسمح بتمرحل مشروع التفتيت والتجزئة. الوزير الإسرائيلي يعبر عن قناعة سائدة لدى كثير من التيارات المتدينة، وهي تجاوزت الصهيونية التقليدية تجاه أن الوجود اليهودي أصبح أمراً واقعاً، ويتوجب المضي في النبوءات إلى مرحلتها الأخيرة. يمكن للدولة الإسرائيلية أن تعتذر بشكل أو بآخر، وليست هذه القصة، المشكلة التي تواجهنا اليوم، هي وصول المواجهة إلى مرحلة النضج التاريخي، وعاجلاً أم آجلاً، سيأتي التحرش الإسرائيلي، محدوداً أو واسعاً، موجهاً ضد الشعب العربي في فلسطين أو الأردن، ولكنه سيأتي، ولذلك يجب أن تبقى روح المعركة دائمة الحضور، وهذه قصة منظومة فكرية وثقافية كاملة. الكرامة بوصفها المعركة التي شهدت أول انتصار عربي على الكيان الصهيوني، يجب أن تبقى حاضرة وراء الاحتفاء الروتيني أو الانتهازي الذي يستغلها من أجل رسائله الخاصة.