المديح في الشعر العربي


د. محمد علي النجار
عرف العرب أهمية الشعر منذ العصر الجاهلي ، وعرفوا للشاعر مكانته ، فكان اهتمامهم بالشعر والشاعر يعكس مدى الاهتمام بالإعلام ذاته ، ولا أدل على ذلك من حرص القبائل العربية على حضور سوق عكاظ ، والمشاركة في تلك التظاهرة الأدبية بأبلغ وأفصح شعرائها ، فإذا فاز شاعرها ، كان لها الفخر بين القبائل ، فقد انتشر شعرها وتناقله الرواة إلى أنحاء الجزيرة العربية ، ولهذا كانت القبيلة من العرب ، إذا نبغ فيها شاعر كما جاء في كتاب العمدة أتت القبائل فهنأتها ، وصنعت الأطعمة ، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر.
لقد كان الشعر في العصر الجاهلي ، أكثر هيمنة على الساحة الإعلامية ، فهو الذي يرفع ويخفض إذ "ليس يؤثر في الأعراض والأنساب ، تأثير الشعر في الحمد والذم شيء من الكلام ، فكم من شريف وضع ، وخامل دنيء رفع .." وما قصة المحلق مع الأعشى إلا دليل على أهمية الشعر ، بل المديح في البيئة العربية.
وغير بعيد ما ذكرته المصادر مما صار إليه بنو نُمير من بيت جرير ، حتى أن القصاص وأصحاب النوادر ، لم يتحرجوا في توليد وإضافة أخبار إليهم ، تدور في هذا المجال ، إلى أن قال الحطيئة يمدحهم:
قومٌ هم الأنُفُ والأذنابُ غيرهُمُ
ومن يساوي بأنفِ الناقةِ الذَنَبا
فصاروا يتطاولون بهذا النسب ، ويمدون به أصواتهم في جهارة.
ثم ألم يمدح الشاعر علقمة الفحل الحارثَ بن أبي شمر الغساني ، وقد أسَرَ أخاه شاس بن عبدة في تسعين رجلاً من بني تميم ، فلما بلغ إلى قوله:
فلا تحرمنّي نائلاً عن جناية
وفي كل حي قد خبطتُ بنعمةٍ
فإني امرؤٌ وسط القبابِ غريبُ
فحُقَّ لشاسٍ من نداك ذَنوبُ
قال الحارث: نعم . وأَذْنِبَةٌ ، وأطلق له شاسًا أخاه ، وجماعة أسرى بني تميم ، ومن سأل فيه أو عرفه من غيرهم.
لقد لعب الشعر على مدى العصور دورًا مهمًا ، واحتل المكانة الرفيعة ، فكان المديح ذروة سنامه ، فهو الفن المتميز عن غيره من فنون الشعر ، وهو غرض لقي من يشمله بالرعاية ، ويحوطه بالتقدير.
والمدح في اللغة نقيض الهجاء ، وهو حُسن الثناء. والمدح المصدر ، والمديح اسم مشتق منه ، وهو يدل على وصف محاسنٍ بكلام جميل ، ومَدَحَهُ: أحسن عليه الثناء. ومدحته: مدحًا .. أثنيت عليه بما فيه من الصفات الجميلة ، خِلقية كانت ، أو اختيارية ، ولهذا كان المدح أعم من الحمد.
أما في الاصطلاح الأدبي ، فإن المدح "ذلك الغرض الشعري ، الذي يختص بهذا النوع من الثناء والإطراء ، الذي يتوجه به الشاعر إلى ممدوح معين".
وقد عرف العرب المديح ، كما عرفته الأمم الأخرى ، فمنذ وجد الإنسان وجدت معه الرغبة في المدح والثناء؛ إعرابًا ، وتعبيرًا عن الإعجاب والتقدير بوسيلة مناسبة ، تعارَفَ عليها هذا المجتمع أو ذاك ، فقد اكتُشفت كتابات على أوراق البردى ، والمسلات ، والقبور ، وقصور بابل ، وتماثيل اليونان ، والرومان ، ومعابد الهند والصين ، نقلت إلينا صيغًا كثيرة لهذا المديح ، لا تختلف في مضمونها ؛ فجميعها يُعلي من شأن الممدوح ، ويـبرز شجاعته وسطوته ، وقوته وذكاءه وعلمه.
ولقد شهد العصر الجاهلي ، والصحراء العربية مولد الشعر العربي ، وتدفقه من وجدان الشعراء ، وعلى ألسنة الرواة ، كالنهر يجري عبر العصور ، وكان المديح يحتل حيزًا كبيرًا من هذا المجرى ، حيث شكل القسم الأكبر في دواوين أشهر شعراء العربية ، من أمثال الأعشى ، وجرير ، وأبي تمام ، والبحتري ، والمتنبئ ، وابن هانئ الأندلسي ، والأبيوردي ، وابن خفاجة ، وابن سناء الملك ، وصفي الدين الحلي ، وأضرابهم من الشعراء ، إلا أن أول ما يستوقفنا هو قلة قصائد المدح عند شعراء الجيل الأول ، أو ندرتها ، فقد غابت من شعر كثير منهم ، وظهرت في شعر آخرين على استحياء. وهذا أمر طَبَعيّ ، فالمديح لم يكن في وقتٍ مبكر من العصر الجاهلي إلا شعر مناسبات ، يقال في موقف يستحق الإشادة والمدح من شاعر القبيلة ، والشاعر العربي لم يكن يهتز ويعتز ببطل قبيلته ، إلا عندما يرى منه شيئًا عظيمًا ، فكان يمتدحه لا من أجل التكسب ، بل إكبارًا ، وإجلالاً ، وإعجابًا بما قام به ، أو يمدح شيخ القبيلة لقيامه بعمل فيه مصلحة القبيلة.
إذًا فالشاعر يمدح ويثني دون أن يفكر في مردود مادي ، بل يرى أن الواجب يملي عليه الإشادة بالأعمال الخيّرة ، دون انتظار مكافأة أو جائزة ، فقد "كانت العرب لا تتكسب بالشعر ، وإنما يصنع أحدهم ما يصنعه فكاهة ، أو مكافأة عن يد لا يستطيع أداء حقها إلا بالشكر ، إعظامًا لها ، ومن هنا جاء المديح صادقًا ، نابعًا من الوجدان ، صادرًا عن قناعة الشاعر بما يقول.
ولهذا لم تكن القصائد المدحية المبكرة ، أكثر من مقطعات أو قصائد قليلة الأبيات ، تهجم على موضوع المدح دون مقدمات ، كتلك التي قالها امرؤ القيس في بني تيم (مصابيح الظلام) ، أو في بني ثعل ، أو كأبيات حاتم الطائي في بني بدر. حيث كان هذا المديح مديح الشكر والثناء ، لا مدح التجارة والاستجداء.